التعليق على مَنْظُومَةٌ فِي غُرْبَةِ الإسْلامِ التعليق على منظومة في غربة الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم وبعد فهذا تعليق لطيف على (مَنْظُومَة فِي غُرْبَةِ الإسْلامِ) لِلعَلاَّمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَحْمَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
والمنظومة قال ابن فارس في مقاييس اللغة : (نَظَمَ) النُّونُ وَالظَّاءُ وَالْمِيمُ: أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى تَأْلِيفِ شَيْءٍ وَتَأْلِيفِهِ، وَنَظَمْتُ الْخَرَزَ نَظْمًا، وَنَظَمْتُ الشِّعْرَ وَغَيْرَهُ . أ.هـ وَالنَّظْمُ: «اسْمٌ لِكَلَامٍ مُقَفًّى مَوْزُوْنٍ». لكن يكون خاليا من الصور الخيالية لأنه يتضمن قواعد علمية ويسمى قائله ناظما. فمن فتح الله عليه في هذا الباب فليجتهد في بث العلوم والآداب النافعة.
وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يقول الشعر كا قال تعالى : ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ .ولكنه كان يحب الشعر. فقد جاء في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام : (إن من الشعر حكمة) وفي صحيح مسلم عن عمر بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا. فَقَالَ “هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصلت شيئاً؟ ” قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ “هِيهْ” فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ “هِيهْ” ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ “هِيهْ” حَتَّى أنشدته مائة بيت .
* وهذه القصيدة في غربة الإسلام وقد جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ »
قال في إكمال المعلم :الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلَة ثم انتشرَ وظهر ، ثم سيلحقه النقص والاختلاف حتى لا يبقى – أيضا – إلا في آحادٍ وقلةِ غريبا كما بدأ وأصل الغربة البُعْدُ ، وبه سُمى الغريبُ لبُعْد داره ، وسُمى النفي تغريبا لذلك .أ.هـ
*وناظمها هو العلامة سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي ، التبالي ، العسيري ، النجدي ، صاحب الردود القويمة وُلد في قرية السُّقا، مِن قُرى أبها، واخْتُلِفَ في سنة ميلاده ما بين عام 1266 وعام 1269، نشأَ في بيت علمٍ وشرفٍ ودينٍ، وتربَّى على يدي والده تربيةً حسنة، فحفظ عليه القرآن ثم أخذ يلقنه مبادئ العلوم وفي سنة 1280 هـ نزح والده من عسير إلى نجد واصطحب معه ابنه سليمان فأخذ سليمان في القراءة على الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت 1285 هـ) وعلى ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ت 1293 هـ) ولازم الشيخ عبداللطيف ملازمة تامة ثمَّ انتقل الشيخ مِن الرِّياض مع والده إلى بلدة العمار من بلاد الأفلاج فقرأ على الشيخ حمد بن عتيق (1301 هـ) ولازمه سبعة عشر عاماً ثم رجع إلى الرياض بعد وفاة الشيخ حمد وقويت صلته بالشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (ت 1339 هـ) وأخذَ علوم اللغة العربية مِن الشيخ حمد بن فارس، فبلغ -رحمه الله- في العلوم مبلغاً، حتَّى صار مناراً يُهتدى به، كثيرَ التَّصانيف، كشف شبهَ المشبِّهين نظماً ونثراً
تلاميذه:
أخذ عنه العلم علماء أجلاء منهم ابنه صالح (ت 1402هـ) وابنه عبد العزيز (1394هـ) والشيخ سليمان بن حمدان (ت1394هـ) والشيخ عمر آل الشيخ (ت1395هـ) والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (ت1392هـ)
مصنفاته:
الأسنة الحداد في ردِّ شبهات علوي الحدَّاد
إرشاد الطالب إلى أهمِّ المطالب
الصواعق المرسلة الشهابية في الرد على الشبه الشامية
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق
كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام
كشف شبهات عبد الكريم البغدادي في تحليله ذبائح الصلب وكفار البوادي
الجواب الفاصل في الساعة بين من يقول إنها سحر ومن يقول إنها صناعة
منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والإبتداع
أشعة الأنوار فيما تضمنته لا إله إلا الله من الأسرار
عقود الجواهر المنضدة الحسان (ديوانه) و توفي رحمه الله عام 1349 هـ
…………
قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
البدء بالبسملة في المكاتبات والرسائل سنة مأثورة كما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره. وهو في الصحيح.
مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَحْمَانَ
*بدأ المرسل باسمه قبل المرسل إليه تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام كما في كتابه إلى هرقل وهو في الصحيح. قال في الفتح: تقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه. أ.هـ
*المراسلات بين طلبة العلم والأحباب وغيرهم من أنفع ما يكون في التناصح ونشر العلم وقد جدّت هذه الوسيلة بين علماء الدعوة النجدية وحصل منها خير كثير .
إلى الأَخِ الْمُكَرَّمِ وَالْمُحِبِّ الْمُقَدَّمِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاشِدٍ آل حَمَدْ حَلاَّهُ اللهُ بِحِلْيَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَعَمَّرَهُ بِآلائِهِ وَنَعْمَائِهِ،وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ بَيْنَ أَهْلِ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ آمِينَ.
من الأساليب الطيبة الداعية لقبول النصح تقديم ما يحفز على القبول من مدح صادق او دعاء خالص . ففي البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا ، وَلاَ تَعُدْ) وفي المسند عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: ” يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ “. فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ. قَالَ: ” أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ” قَالَ: وَأَوْصَى بِذَلِكَ مُعَاذٌ: الصُّنَابِحِيَّ، وَأَوْصَى الصُّنَابِحِيُّ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَوْصَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ.
وقد تميزت مراسلات علماء الدعوة بهذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالة منه للإمام فيصل بن تركي: ” من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب عبد الرحمن بن حسن إلى الابن الإمام فيصل بن تركي. . . وكنت والله يعلم صدقي بما قلته أني أحبك وأقدمك في المحبة على من مضى من حمولتك وحمولتي، واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم مسرور، ولا عندي لك مكافآت إلا بالدعاء والنصح باطنًا. . . “
سَلامُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعْدُ :
قال ابن القيم في الفوائد : ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة؛ فتقول: “سلام عليكم” فيقول الرادُّ: “وعليك السلام “؟. فأجاب بما ملخصه التنكير في السلام، وهو: أن السلام دعاءٌ وطلب، وهُم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة، إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول: “ويل له”، ومن الثاني: “خيبة له” و”جدعًا” و”عقرًا” و”تربًا” و” جَنْدلًا”، هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له: “سقيًا” و”رعيًا” و”كرامة” و”مسرَّة”، فجاءَ “سلام عليكم” بلفظ النكرة كما جاءت سائر ألفاظ الدعاء. وسرُّ ذلك: أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا ترى أن “سقيًا ورعيًا وخيبة” جرى مجرى: “سقاك الله” و”رعاك” و”خيَّبَك”، وكذلك: “سلام عليك” جارٍ مجرى: “سلَّمكَ الله”، والفعل نكرة، فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرة مثله.
* السلام في بدأ المراسلات سنة نبوية كما في كتاب النبي عليه الصلاة والسلام إلى هرقل وهو في الصحيح. وقد يقول قائل كيف يسلم النبي عليه الصلاة والسلام على كافر وقد جاء النهي عن بدأهم بالسلام ؟ والجواب كما قال العلماء إما أنه يدل على الجواز عند الحاجة أو أنه مقيد على من اتبع الهدى أو على من تمسك بالحق.
فَأَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللهَ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ، وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْخَطُّ وَصَلَ بِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَفَقَّنَا اللهُ وَإيَّاكَ لِقَبُولِ الْوَصَايَا الشَّرْعِيَّةِ، وَأَعَاذَنَا مِنْ سَيِّئَاتِ الأَعْمَالِ الكَسْبِيَّةِ .
الأَعْمَال الكَسْبِيَّة التي يكتسبها العبد فمنها السيئ ومنها الطيب أما المواهب الخلقية فلا يد للمرء فيها. هذا مقصود الناظم رحمه الله أما مسألة الكسب عند الاشاعرة فهي كما قال ابن تيمية في منهاج السنة : فَالَّذِينَ جَعَلُوا الْعَبْدَ كَاسِبًا غَيْرَ فَاعِلٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِ [بْنِ صَفْوَانَ] وَحُسَيْنٍ النَّجَّارِ، وَأَبِي الْحَسَنِ [الْأَشْعَرِيِّ] وَغَيْرِهِمْ ، كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ ; وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا فِي بَيَانِ هَذَا الْكَسْبِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ كَلَامًا مَعْقُولًا .أ.هـ
وقال في الفتاوى : ثم أثبتوا كسبا لا حقيقة له؛ فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل .
وقال : أن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها.أ.هـ
وَأُوصِيكَ بِمَا أَوْصَيْتَنِي بِهِ .
في هذا مشروعية التواصي بين المؤمنين قال الإمام ابن باز رحمه الله: الواجب على كل مسلم بقدر استطاعته وعلى حسب علمه ومقدرته , أن يشمر عن ساعد الجد في النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره . قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ولا ريب أن كل مؤمن بل كل إنسان في حاجة شديدة إلى التذكير بحق الله وحق عباده والترغيب في أداء ذلك , وفي حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه . وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين وأعمالهم الحميدة وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة , وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم , وأجمعها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال : (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
وَبِلُزُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِمَا،
قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وقال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) قال في إعلام الموقعين: قال الشافعي قدس الله تعالى روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.أ.هـ وقال عليه الصلاة والسلام: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)رواه الترمذي وغيره وصححه. وقال صلى الله عليه وسلم:( وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟..) رواه مسلم
قال ابن القيم في النونية :
يا أيها الرجل المريد نجاته … اسمع مقالة ناصح معوان
كن في أمورك كلها متمسكا … بالوحي لا بزخارف الهذيان
وانصر كتاب الله والسنن التي … جاءت عن المبعوث بالفرقان
واضرب بسيف الوحي كل معطل … ضرب المجاهد فوق كل بنان
واحمل بعزم الصدق حملة مخلص … متجرد لله غير جبان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى … فإذا أصبت ففي رضا الرحمن
واجعل كتاب الله والسنن التي … ثبتت سلاحك ثم صح بجنان
من ذا يبارز فليقدم نفسه … أو من يسابق يبد في الميدان
واصدع بما قال الرسول ولا تخف … من قلة الأنصار والأعوان
فالله ناصر دينه وكتابه … والله كاف عبده بأمان
فَإنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ نَبَذُوهُمَا ظِهْرِيًّا
من أعظم مظاهر غربة الدين في هذه الأزمان الإعراض عن الوحيين تدبرا وتحاكما وانقيادا. قال الإمام ابن القيم في نونيته:
والله ما خوفي الذنوب فإنها … لعلى طريق العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من… تحكيم هذا الوحي والقرآن
ورضا بآراء الرجال وخرصها … لا كان ذاك بمنة الرحمن
فبأي وجه ألتقي ربي إذا… أعرضت عن ذا الوحي طول زمان
وعزلته عمّا أريد لأجله … عزلا حقيقيا بلا كتمان
صرّحت أن يقيننا لا يستفاد… به وليس لديه من إتقان
أوليته هجرا وتأويلا وتحـ … ـريفا وتفويضا بلا برهان
وسعيت جهدي في عقوبة ممسك… بعراه لا تقليد رأي فلان
يا معرضا عما يراد به وقد … جد المسير فمنتهاه دان
وَزَهِدُوا فِيمَا تَضَمَّنَاهُ .
قال في فتح رب البرية بتلخيص الحموية: رسالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتضمن شيئين هما: العلم النافع، والعمل الصالح كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }.فالهدى هو: العلم النافع. ودين الحق هو: العمل الصالح الذي اشتمل على الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.والعلم النافع يتضمن كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها، ومعادها .
مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ .
قال ابن تيمية في الفتاوى: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُهْتَدَى بِهِ لَا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ وَالْهُدَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُرِفَتْ مَعَانِيهِ فَإِذَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ الْمُضَادُّ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ وَلَمْ تُفْهَمْ الْآيَةُ وَمَعْنَاهَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا فُهِمَ . وَقَالَ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْقِلُوا مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ وَالْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَمَنْ عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبِعْ الْخَيْرَ وَيَحْذَرْ الشَّرَّ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَنْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ يَفِرُّ مِمَّا يَنْفَعُهُ .أ.هـ
وقال في الرد على الشاذلي: وعلى كل أحد أن يفعل ما وجب عليه من العلم والعمل، فلا يكفيه قيامه بالعلم الواجب دون العمل به، ولا قيامه بالعبادة دون ما وجب عليه من العلم، ولا يكفيه العلم والعمل حتى يكون متبعًا في ذلك للكتاب والسنة، ولهذا قال مَن قال مِن السلف: الإيمانُ قولٌ وعمل ومتابعة للسنة.
وقال بعضهم: لا ينفع قولٌ إلا بعمل، ولا قولٌ وعملٌ إلا بمتابعة العلم، فالقول يتضمن العلم، والعمل يتضمن الإرادة.
ولهذا لما سلك كثير من طلاب العلم طريقَ النظر والاستدلال دون العمل الواجب والاعتصام بالكتاب والسنة وقعوا في بدع كثيرة كلامية مع الخروج عن الواجب في أعمالهم، فجمعوا بين بدعةٍ وفجور.
ولما سلك كثير من أهل الإرادة والعبادة والزهادة طريقة العمل دون ما يجب عليهم من العلم ودون الاعتصام في ذلك بالكتاب والسنة وقعوا في كثير من البدع الحالية مع الخروج عن الواجب أيضًا، فجمعوا بين بدعة وجهالة!
فهؤلاء يشبهون الضالين وأولئك يشبهون المغضوب عليهم، ولهذا قيل: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما لكل مفتون، فالعالم الفاجر فيه [ت 12] شَبَهٌ من اليهود، والعابد الجاهل فيه شَبَهٌ من النصارى. قال سفيان بن عُيينة: كانوا يقولون: مَن فَسَد من علمائنا فيه شَبَهٌ من اليهود، ومَن فسد من عبّادنا فيه شَبَهٌ من النصارى. أ.هـ
اللَّهُمَّ إلاَّ أَنْ يُوَافِقَ الْهَوَى .
أهل البدع يأخذون ما وافق أهواءهم حقا أو باطلا. قال تعالى:(وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) قال ابن تيمية في الفتاوى : فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله قال تعالى: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} وقال: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال تعالى لداود: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقال تعالى: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون} وقال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} . فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله وبعد هدى الله الذي بينه لعباده: فهو بهذه المثابة. ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق – المخالفين للكتاب والسنة – أهل الأهواء: حيث قبلوا ما أحبوه وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدى من الله .أ.هـ
وَاذْكُرْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِحُذَيْفَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْفِتَنِ قَالَ : “اقْرَأْ كِتَابَ اللَّهِ وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ ” كَرَّرَهَا ثَلاثًا.
قال في مسند الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الصمد ثنا حماد ثنا علي بن زيد عن اليشكري عن حذيفة قال قلت : يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر قال يا حذيفة أقرأ كتاب الله واعمل بما فيه فأعرض عنى فأعدت عليه ثلاث مرات وعلمت إنه إن كان خيرا أتبعته وإن كان شرا اجتنبته فقلت هل بعد هذا الخير من شر قال نعم فتنة عمياء عماء صماء ودعاة ضلالة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها) وأصله في الصحيح.
قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ :
هو العلامة الأوحد الكبير علامة المعقول والمنقول حاوي علمي الفروع والأصول كما وصفه بهذا علامة العراق محمود شكري الألوسي: الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 1225هـ كان رحمه الله إلى جانب ما اتصف به من العلم والفضل قوي الشخصية صادق اللهجة ، وكان أمارا بالمعروف نهاءاً عن المنكر غيوراً على حرمات الإسلام والدين وكان مع هذا عالماً ربانياً وزعيماً دينياً مهاباً محترماً عند ولاة الأمور ومن دونهم من الخاصة والعامة، كافح لنشر العلم وبث الدعوة والدفاع عن الدين وكرس جهده وأوقف حياته على نشر العلم وبث الدعوة والدفاع عنها توفي رحمه الله سنة 1293هـ
” وَالْحِكْمَةُ – وَاللهُ أَعْلَمُ – شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَقْتَ الْفِتَنِ وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ وَالتَّقَلُّبِ.
الحكمة في الحث على تدبر القران والعمل به خصوصا في زمن الفتن لأنه المخرج منها
قال تعالى : ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ قال ابن تيمية في جامع المسائل : وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه]، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، ثم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).أ.هـ
وقال سبحانه : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ قال ابن القيم في إغاثة اللهفان : جماع أمراض القلب هى أمراض الشبهات والشهوات. والقرآن شفاء للنوعين. ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هى عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها، وإنما هى آراء وتقليد. وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها. فهى:
“لَحْمُ جَمَلٍ غَثّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، ولا سَمِينٌ فَينتفلُ”.
وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو فى القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد.أ.هـ
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ قال السعدي في تفسيره : وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده . أ. هـ
قال في مفتاح دار السعادة : وقد فطر اللهُ بني آدم على تناول ما ينفعُهم واجتناب ما يضرُّهم، وجعل لكلِّ قومٍ عادةً وعُرفًا في استخراج [أدوية] ما يَهْجُم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيرًا من أصول الطبِّ إنما أُخِذت من عوائد النَّاسِ وعُرفهم وتجاربهم.
وأمَّا الشريعةُ فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسَخَطه في حركات العباد الاختياريَّة؛ فمبناها على الوحي المحض، والحاجةُ [إليها أشدُّ من الحاجة] إلى التنفُّس، فضلًا عن الطَّعام والشراب؛ لأنَّ غاية ما يقدَّر في عدم التنفُّس والطَّعام والشراب موتُ البدن وتعطُّل الرُّوح عنه، وأمَّا ما يقدَّر عند عدم الشريعة ففسادُ الرُّوح والقلب جملةً، وهلاكُ الأبد؛ وشتَّان بين هذا وهلاك البدن بالموت. أ.هـ
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَغَيْرِهِمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ .
قال ابن باز رحمه الله في مجموع الفتاوى : كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، كان الشرك الأكبر قد نشأ وانتشر، حتى عبدت القباب وعبدت الأشجار، والأحجار، وعبدت الغيران، وعبد من يدعي بالولاية. وهو من المعتوهين، وعبد من دون الله أناس يدعون بالولاية، وهم مجانين مجاذيب لا عقول عندهم، واشتهر في نجد السحرة والكهنة، وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلا من شاء الله، وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدين الله . أ هـ
وَالْمُؤْمِنُ مَن اشْترَى نَفْسَهُ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ عَنْهُ الْجُهَّالُ وَالْمُتْرَفُونَ ” انتهى .
قال الرازي في تفسيره : مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوَسُّعِ فِي مَلَاذِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَقَعَ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ لَهُ، فَبِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَتْ حَقًّا لِلنَّارِ وَالْعَذَابِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ وَأَقَدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّارِ فَصَارَ حَالُ الْمُؤْمِنِ كَالْمُكَاتَبِ يَبْذُلُ دَارَهِمَ مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ أَنْفَاسًا مَعْدُودَةً وَيَشْتَرِي بِهَا نَفْسَهُ أَبَدًا لَكِنَّ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فَكَذَا الْمُكَلَّفُ لَا يَنْجُو عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ لَهُ نَفْسٌ وَاحِدٌ فِي الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 31] وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99]. أ.هـ
وَتَذَكَّرْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غُرْبَةِ الدِّينِ وَانْدِرَاسِ مَعَالِمِ الإسْلامِ، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْتَ .
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في منهاج التأسيس والتقديس : نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعزّ خلاصه وعظمت بالجهل محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصّالحين وغيرهم صرفا لم يشب؛ هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشبَّ، واستحكم الأمر استحكاما لا مزيد عليه. حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه. وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى زاده الله صلاة وسلاماً وشرفاً، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ “. وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيه زيادة: “وباعاً بباع” وفيه: “حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه” وفي الباب عن أبي هريرة وشداد بن أوس وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم. فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قبل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين. ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين. أ.هـ
جاء في الدرر السنية في الأجوبة النجدية : هذا الزمان، الذي قل فيه العلم، وفشا فيه الجهل، وتزاحمت فيه الفتن، وقل فيه العمل بالسنة والكتاب، واشتدت فيه غربة الدين، ووقع ما أخبر به الصادق الأمين، وصار كثير من الناس لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما اعتادوه وألفوه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت فتأكفت سحائبها بالدمع ديما وهطّلا
ولكنها لقسوة القلب أقحطت فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا. .أ.هـ
فَالأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ وَأَعْظَمُ مِمَّا إلَيْهِ أَشَرْتَ، فَإنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ – إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً – إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ}.
قال في اكمال المعلم : وفى الأحاديث التى ذكر مسلم عن أم سلمة تعليم ما يقال عند الميت وبعده، من الدعاء له، والذكر، والاسترجاع، وقول الخير، والدعاء لمن يخلفه، فيجبُ التأدب بأدب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، وامتثال ما رسمه من ذلك – عليه السلام – وعمل به. أ.هـ
وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ:( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ..)الْحَدِيثَ .
قال الإمام مسلم رحمه الله حَدَّثَنَا : مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا، عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ . قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ ، عَنْ يَزِيدَ – يَعْنِي: ابْنَ كَيْسَانَ -، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ »
قال في الحوادث والبدع للطرطوشي : فيما اشتملت عليه السنة من التحذير من الأهواء والبدع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء.
قيل: من هم يا رسول الله؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» .
وفي لفظ آخر: «النُّزَّاع من القبائل» .
وفي لفظ آخر: «أناسٌ صالحون قليلٌ في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»
ومعنى هذا الحديث: أنه لما جاء الله بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيه غريبا فيهم، مستخفيا بإسلامه، قد جفاه الأهل والعشيرة، فهو بينهم ذليل حقير خائف يتغصص بجرع الجفاء والأذى، ثم يعود غريبا؛ لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس؛ لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.
وقال ابن مسعود: «خط لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطا، ثم خط إلى جانبه خطوطا، ثم قال للخط الأول: هذا سبيل الله يدعو إليه، وقال للخطوط: هذه سبل الشيطان، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} » .
فحذر من البدع ومحدثات الأمور.
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟
قال: فمن؟ !» . وروى أبو داود في ” السنن ” عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى – أو اثنتين – وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى – أو اثنتين – وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» . ورواه معاوية بن أبي سفيان؛ قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» . واعلم أن هذا الحديث قد طاشت فيه أحلام الخلق، وفي معرفة هذه الفرق، وهل كملوا بعد أم لا؟ !. أ.هـ
وَقَدْ صَارَ إقْبَالُ النَّاسِ وَإكْبَابُهُمُ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَإصْلاحِهَا وَلَوْ بِفَسَادِ دِينِهِمْ .
قال الشيخ عبدالعزيز السلمان في ايقاض الهمم: قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم، طلبتَ الدنيا طلب من لابُد له منها، وطلبتَ الآخرة طلب من لا حاجة له إليها. والدُنيا قد كُفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالُها، فاعقل شأنك.
وقال: مفاوزُ الدنيا تُقطعُ بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطعُ بالقُلُوب.
وقال: يا ابن آدم، لا يزالُ دينُك مُتمزقًا ما دام قلبُك بحُب الدنيا متعلقًا.
نُرقِعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيْق دِيْنِنَا … فَلا دِيْنُنَا يَبْقَى وَلا مَا نُرَقّعُ
فَطَوبَى لِعَبْدٍ آثَر الله وَحْدَهُ … وَجَادَ بِدُنْيَاه لِمَا يُتَوَقْعُ
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ : ” مِنْ عَجِيبِ ما قدمت فِي أَحْوَالِ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلافِ، وَالتَّحَسُّرِ عَلَى الأَرْزَاقِ وَذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ وَقَدْ رَأَوْا مِنِ انْهِدَامِ الإسْلامِ وَشَعَثِ الأَدْيَانِ وَمَوْتِ السُّنَنِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَتَقَضِّي الْعُمُرِ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لا يُجْدِي ، فَلا أَحَدَ مِنْهُمْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ وَلا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمُرِهِ وَلا تَأَسَّى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ ، وَلا أَرَى ذَلِكَ إلاَّ لِقِلَّةِ مُبَالاتِهِمْ بِالأَدْيَانِ وَعِظَمِ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَرْضَوْنَ بِالْبَلاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ… “انْتَهَى .
هذا النقل من كتاب الفنون لأبي الوفاء ابن عقيل . وصفه ابن رجب بقوله: “هو كتاب كبير جداً، فيه فوائد جليلة في الوعظ والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره، ونتائج فكره قيدها فيه”.أ.هـ
وقال الذهبي في تاريخه: “لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربع مئة” .أ.هـ
أما ابن عقيل فهو أبو الوفاء عليُّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الظفري، البغدادي
وُلد ابن عقيل في بغداد في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة
يقول ابن عقيل عن أسرته: “وأما أهل بيتي، فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام وكتابة، وشعر، وأدب، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة، ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلماً، وبيت أمي بيت الزهري، صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة” .
تلقى ابن عقيل العلم عن عدد كبير من العلماء في فنون متعددة
لقد برع ابن عقيل في علوم كثيرة وخاصة علم الفقه وأصوله، فأثنى عليه العلماء، ووصفوه بالإمام المجتهد شيخ الإسلام
قال ابن رجب: “كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مُفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم، وكان خبيراً بالكلام، مطلعاً على مذاهب المتكلمين”.أ.هـ
فَلأَجْلِ غُرْبَةِ الإسْلامِ وَانْطِمَاسِ مَعَالِمِهِ الْعِظَامِ وَإكْبَابِ النَّاسِ عَلَى جَمْعِ الحُطَامِ أَقُولُ :
يجب على العلماء أن يصدعوا بالحق قولا وفعلا وسلوكا ويحذروا الناس من مسالك الشر لا يخافون في الله لومة لائم. قال الذهبي: الصدع بالحق عظيم ، يحتاج إلى قوة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به والقوي بلا إخلاص يخذل ، فمن قام بهما كاملاً ، فهو صديق ، ومن ضَعُف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب ، وليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوة إلا بالله .أ.هـ
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ – وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ – ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا علي لأنفذتها .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: إني لأستحي من الله أن أشبع حتى أرى العدل قد بسط ، وأرى الحق قد قام.
قال في البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج : ما كان عليه الصحابة – رضي الله عنهم – من الصدع بالحقّ، من غير خوف، ولا استكانة، فقد دخل هذا الصحابيّ هشام بن حكيم على أمير
فلسطين، وذكّره بحديث النبيّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتذكّر، فخلّى سبيل المعذَّبين، وهكذا من
حقّ المسلم أن يصدع بالحقّ، ولو كان عند ظالم، فقد أخرج أبو داود والترمذيّ، وابن ماجة عن أبي سعيد الخدريّ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
“أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر – أو – أمير جائر”، وهو حديث
صحيح.
وأخرج النسائيّ عن طارق بن شهاب، أن رجلًا سأل النبيّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد
وضع رجله في الْغَرْز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: “كلمة حق عند سلطان جائر”،
والله تعالى أعلم . أ.هـ
وقد أحسن من قال: تظنون أن الدين لبيك في الفلا **وفعل صلاة والسكوت عن الملا
عَلَى الدِّينِ فَلْيَبْكِ ذَوُو الْعِلْمِ وَالْهُدَى ***
فيه حث أهل العلم على البذل لنصرة دين الله والذب عنه والقيام بما أوجب الله عليهم من الصدع بكلمة الحق خصوصا إذا ترتب على السكوت خذلان الدين وأهله. قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران) قال ابن تيمية :فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم : تارة بخلا به وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا ، وتارة خوفا في أن يُحتج عليهم بما أظهروه منه .وهذا قد يبتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به ، وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه ، وتارة اعتياضا عنه برئاسة أو مال ، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله ، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة ، أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة ، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل .أ.هـ
………………………….**** فَقَدْ طُمِسَتْ أَعْلامُهُ فِي الْعَوَالِمِ
من صور اندراس معالم الدين تولي الكفار ومولاتهم ومعاداة أولياء الله ووصمهم بالمعايب وحرب الجهاد والمجاهدين والاعراض عن تحكيم الوحي المبين وقلة الصدع بالحق وإسناد الأمور إلى غير أهلها وذهاب الحياء والأمانة…
وَقَدْ صَارَ إقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهُمْ *** عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ
من فتن هذا الزمان العظيمة الركون إلى الدنيا والشغف في جمع حطامها من الحلال والحرام .فصار المرء لايميز في كسبه… بين الحلال والحرام.
قال شيخنا العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين : ولهذا لا ينبغي الركون إلى الدنيا ولا الرضا بها؛ وكأن الإنسان مخلد فيها.
ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه يقول: ((إذا أصبحت فلا تنتظر المساء)) فإنك قد تموت قبل أن تمسي. ((وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)) فإنك قد تموت قبل أن تصبح، ولكن انتهز الفرصة، لا تؤخر العمل، لا تركن إلى الدنيا فتؤمل البقاء مع أنك لا تدري.
” وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك” انتهز الصحة، انتهز الحياة، فإنك قد تمرض فتعجز، وقد تفتقر فتعجز، وقد تموت فينقطع عملك .أ.هـ
وقال شيخنا الغنيمان حفظه الله في شرح فتح المجيد : وإنما المقصود أن يتعظ الإنسان وينزجر عن الركون إلى الدنيا، ويكون عنده رغبة في الآخرة؛ لأنه إذا نظر إلى القبر تذكر أنه سوف يقبر، وأن هذا مآله، وسوف يكون يوماً في هذا القبر ولابد، فيدعوه ذلك إلى زيادة العمل، وإلى الانكفاف عن المعاصي، فيكون فيه خير للزائر من هذه الناحية.أ.هـ
وَإصْلاحِ دُنْيَاهُمُ بِإفْسَادِ دِينِهِمْ *** وَتَحْصِيلِ مَلْذُوذَاتِهَا وَالْمَطَاعِمِ
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) قال العلامة السعدي في تفسيره: أي: { أَفَحَسِبْتُمْ } أيها الخلق { أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي: سدى وباطلا تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم لا نأمركم، ولا ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } لا يخطر هذا ببالكم ، { فَتَعَالَى اللَّهُ } أي: تعاظم وارتفع عن هذا الظن الباطل، الذي يرجع إلى القدح في حكمته. { الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } فكونه ملكا للخلق كلهم حقا، في صدقه، ووعده، ووعيده، مألوها معبودا، لما له من الكمال { رَبُّ الْعَرْشِ الكريم } فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثا .أ.هـ
قال ابن الجوزي رحمه الله: فيا قاسي القلب، هَلاَّ بكيت على قسوتك، ويا ذاهل العقل في الهوى هَلاَّ ندمت على غفلتك، ويا مقبلاً على الدنيا فكأنك في حفرتك، ويا دائم المعاصي خف من غبِّ معصيتك؛ ويا سيئ الأعمال نُح على خطيئتك. وقال: اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء ميالة إلى الشر فرارة من الخير وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة رجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها قال الله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }
يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا *** سَوَاءٌ لَدَيْهِمْ ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ
الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى ملة إبراهيم ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان وهذا مما وقع فيه الخلط عند كثير من المسلمين فصارت موالاتهم لأجل الدنيا فأحبوا أعداء الله وعادوا أولياء الله لأجل سياسة مقيتة أو تجارة خاسرة أو شهوة عابرة أو رياضة أو منصب…قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله :إن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين كما قال تعالى:( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المفلحون )أ.هـ
إذَا انْتُقِصَ الإنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى *** يَكُونُ لَهُ ذُخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ
من علامات نقص الإيمان، أن يرى المرء العزة بالأموال والمناصب…، لا بالإيمان والعمل الصالح، فيحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية يحزن لها ويفرح. وهذ هو عبد الدنيا الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) رواه البخاري.
قال الرازي في تفسيره : أَنَّ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ عَمَى الْقَلْبِ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَهُمْ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَابْتِهَاجِهِمْ بِلَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا فَهَذِهِ الرَّغْبَةُ تَزْدَادُ فِي الْآخِرَةِ وَتَعْظُمُ هُنَاكَ حَسْرَتُهَا عَلَى فَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَوْنَ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ وَحَسْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَمَى. أ.هـ
قال في البحر المديد في تفسير القرآن المجيد : قال القشيري: المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا، أو نقص نصيبه فيها، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب، فحقيرٌ قدره، وكثيرٌ في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله، فعظيم قدره، وقليل مثله، في العدد قليل، ولكن في القدر والخطر جليل. هـ. قلت: معنى كلامه: أن العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم، فإن جزعوا فقدرهم حقير، وإن صبروا فأجرهم كبير، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله، وإقبالهم عليه، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله، فمنهم من يُسجن، ومنهم من يُضرب، ومنهم من يُجلى من بلده، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. أ.هـ
وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِنَ الْحُزْنِ وَالأَسَى *** عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ
وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا *** وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ
الصادق مع الله لايحزنه ما فات من دنياه لأن همته تعلقت بالاخرة الباقيه
في الزهد للإمام احمد : قال عبد اللَّه: حدثنا أبي، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن الحسن قال: واللَّه، لقد أدركت أقواما وصحبت طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهِيَ كانت أهون في أعينهم من هذا التراب، كان أحدهم يعيش خمسين سنة لم يُطوَ له ثوب قط، ولا نُصِب له قدر، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا، ولا أمر في بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها، وسألوا اللَّه أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم، وسألوا اللَّه أن يغفرها، فما زالوا كذلك على ذلك، فواللَّه ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة، وإنكم أصبحتم في أجل منقوص، والعمل محفوظ، والموت واللَّه في رقابكم، والنار بين أيديكم، فتوقعوا قضاء اللَّه عز وجل في كلِّ يوم وليلة. أ.هـ
قال ابن القيم في الفوائد : وَهَذِه حَال أَكثر النُّفُوس مَعَ هَذَا الْعَدو وَلِهَذَا تراهم يسخطون رَبهم بِرِضا أنفسهم بل بِرِضا مَخْلُوق مثلهم لَا يملك لَهُم ضرا وَلَا نفعا ويضيعون كسب الدّين بكسب الْأَمْوَال وَيهْلِكُونَ أنفسهم بِمَا لَا يبْقى لَهُم ويحرصون على الدُّنْيَا وَقد أَدْبَرت عَنْهُم ويزهدون فِي الْآخِرَة وَقد هجمت عَلَيْهِم ويخالفون رَبهم باتّباع أهوائهم ويتكلون على الْحَيَاة وَلَا يذكرُونَ الْمَوْت ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون مَا عهد الله إِلَيْهِم ويهتمون بِمَا ضمنه الله وَلَا يهتمون بِمَا أَمرهم بِهِ ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فَوَات حظهم مِنْهَا وَلَا يَحْزَنُونَ على فَوَات الْجنَّة وَمَا فِيهَا وَلَا يفرحون بِالْإِيمَان فَرَحهمْ بالدرهم وَالدِّينَار ويفسدون حَقهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم ويلبسوا إِيمَانهم بظنونهم ويخلطون حلالهم بحرامهم ويترددون فِي حيرة آرائهم وأفكارهم ويتركون هدى الله الَّذِي أهداه إِلَيْهِم.أ.هـ
فَأَمَّا عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى *** وَمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ
قال البغوي في تفسيره : قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَنِيفِيَّةُ اتِّبَاعُ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا إِمَامًا لِلنَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَنِيفُ الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ مَيْلٌ وَعِوَجٌ يَكُونُ فِي الْقَدَمِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْحَنِيفُ هُوَ الْحَاجُّ الْمُخْتَتِنُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا كَانَ مَعَ الْحَنِيفِ الْمُسْلِمِ فَهُوَ الْحَاجُّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِ فَهُوَ الْمُسْلِمُ، قَالَ قَتَادَةُ: الْحَنِيفِيَّةُ: الْخِتَانُ وَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ .أ.هـ
قال الرازي في التفسير : لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْحَنِيفِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَنِيفَ هُوَ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قيل للأعرج أَحْنَفُ، تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، كَمَا قَالُوا لِلَّدِيغِ: سَلِيمٌ، والمهلكة: مَفَازَةٌ، قَالُوا: فَكُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ حَنِيفٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَنِيفَ الْمَائِلُ، لِأَنَّ الْأَحْنَفَ هُوَ الَّذِي يَمِيلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَدَمَيْهِ إِلَى الْأُخْرَى بِأَصَابِعِهَا، وَتَحَنَّفَ إِذَا مَالَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَنَفَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، أَيْ مَالَ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ مُخَالِفًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُنْحَرِفًا عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَذَكَرُوا عِبَارَاتٍ، أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ حَجُّ الْبَيْتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا اتِّبَاعُ الْحَقِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَثَالِثُهَا: اتِّبَاعُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَرَائِعِهِ الَّتِي هِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَرَابِعُهَا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ وَتَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ عَنِ الْأَصَمِّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَنِيفُ لَقَبٌ لِمَنْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَلْقَابِ الدِّيَانَاتِ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .أ.هـ
ملة إبراهيم هي التوحيد الخالص ملةٌ لجميع الأنبياء والرسل قبل إبراهيم وبعده . قال البغوي: وإنما خُصَّ إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع .
قال في منهاج السنة : فَاللَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَمَا مِنْ فِطْرَةٍ لَمْ تَفْسُدْ إِلَّا وَهِيَ تَجِدُ فِيهَا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ قَدْ تَفْسُدُ الْفِطْرَةُ إِمَّا لِكِبَرٍ وَغَرَضٍ فَاسِدٍ (3) كَمَا فِي فِرْعَوْنَ. وَإِمَّا بِأَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي الْمَحَبَّةِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} .أ.هـ
وقال في الفتاوى : وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول الله ليحكم بين الناس بما أراه الله ونهيه عن ضد ذلك. وذكره فضل الله عليه ورحمته في حفظه وعصمته من إضلال الناس له وتعليمه ما لم يكن يعلم. وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين. وتعظيم أمر الشرك وشديد خطره وأن الله لا يغفره. ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء – إلى أن بين أن أحسن الأديان: دين من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا. بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التي شرعها لا بالبدع والأهواء. وهم أهل ملة إبراهيم الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا {واتخذ الله إبراهيم خليلا} . فكان في الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها: اتباع التوحيد وملة إبراهيم. وهو إخلاص الدين لله وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات.أ.هـ
قال الامام المجدد في الأصول الثلاثة : اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين؛ وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] . ومعنى يعبدون: يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه: الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [سورة النساء آية: 36] .أ.هـ
فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالَّذِي فَلَقَ النَّوَى *** مِنَ النَّاسِ مِنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ
من علامات الايمان الحزن على التقصير في إقامة الدين والأسى على حال الأمة والاهتمام بشأن المسلمين في كل صقع . قال في صيد الخاطر : أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وانتظروا إحدى الحسنيين وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصاً على نصرة دين الله أو نيل رتبة الشهادة وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما احتضر للموت على فراشه كان يقول كم غررت بروحي وهجمت على الصفوف طمعاً في الشهادة وأنا الآن أموات موت العجائز فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات هكذا كان حال الصادقين في الإيمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين
وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفاً من الموت فقيل لهم إن الموت الذين تفرون منه فإنه ملاقيكم فإيثارهم البقاء على الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلما رأوا أنهم تركوا تمتع عشرين سنة مثلاً أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به .أ.هـ
وفي الصحيح عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ).وفي الصحيح قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) .
قال تعالى :﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ قال الطبري في تفسيره : الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعهم إياها بها إنفاقهم أموالهم في طلب رضا الله ، كجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه ، وبذلهم مهجهم له في ذلك. أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه، فقال: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [النساء: 74] يقول: ومن يقاتل في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله أعداء الله، {فيقتل} [النساء: 74] ، يقول: فيقتله أعداء الله أو يغلبهم فيظفر بهم {فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [النساء: 74] يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابا وأجرا عظيما. وليس لما سمى جل ثناؤه عظيما مقدار يعرف مبلغه عباد الله .أ.هـ
وقال تعالى :﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
قال في روضة المحبين في سياق ما يعين على النجاة من الهوى : فرحه بغلبة عدوِّه، وقهره له، وردِّه خاسئًا بغيظه، وغمِّه، وهمِّه حيث لم ينل منه أُمنيَّته، والله تعالى يحبُّ من عبده أن يُراغم عدوَّه، ويغيظه، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة/ 120]، وقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح/ 29]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء/ 100] أي: مكانًا يراغم فيه أعداء الله. وعلامة المحبَّة الصَّادقة مغايظةُ أعداء المحبوب، ومراغمتُهم .أ.هـ
وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ *** وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الإِسْمُ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
قال الحاكم رحمه الله في المستدرك: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَفِيدُ ، حَدَّثَنَا جَدِّي ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، أَنْبَأَ أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ ، حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ نُسُكٌ ، وَيُسَرَّى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ فَلاَ يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ ، وَيَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ ، يَقُولُونَ : أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا قَالَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ لِحُذَيْفَةَ : فَمَا تُغْنِي عَنْهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ نُسُكٌ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، فَرَدَّدَهَا عَلَيْهِ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ ، فَقَالَ : يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
فمع كثرة الجهل، وغياب العلماء، وتقصير الدعاة، والإعراض عن طلب العلم، والانشغال بالدنيا، اندرست معالم السنن في كثير من البقاع ، وصارت السنة بدعة، والبدعة سنة، وعاد الإسلام في بعض البلاد غريباً كما بدأ.
ولكن من رحمة الله أن أقام الطائفة المنصورة تنطق بالحق، وتدفع الباطل، وتنشر السنن، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر على ما توجبه الشريعة . وفي البخاري : عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وهم ظاهرون) .
فَلا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا *** وَلا زَاجِرٌ عَنْ مُعْضِلاتِ الْجَرَائِمِ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسات الملة والدين . قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) وفي ابي داوود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إِلَى قَوْلِهِ {فَاسِقُونَ} ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا.» وفي الترمذي : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ» أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ).
قال في احياء علوم الدين : فإن الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ وعز عَلَى بِسَاطِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ لَا تَأْخُذُهُ في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الداثرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها .أ.هـ
وَمِلَّةُ إبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا *** عَفَاءً فَأَضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ
قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: أي: ما يرغب { عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: جهلها وامتهنها، ورضي لها بالدون، وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل، ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال: { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي: اخترناه ووفقناه للأعمال، التي صار بها من المصطفين الأخيار.{ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات.{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ } امتثالا لربه { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إخلاصا وتوحيدا، ومحبة، وإنابة فكان التوحيد لله نعته. ثم ورثه في ذريته، ووصاهم به، وجعلها كلمة باقية في عقبه، وتوارثت فيهم، حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه. فأنتم – يا بني يعقوب – قد وصاكم أبوكم بالخصوص، فيجب عليكم كمال الانقياد، واتباع خاتم الأنبياء قال: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي: اختاره وتخيره لكم، رحمة بكم، وإحسانا إليكم، فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه، لأن من عاش على شيء، مات عليه، ومن مات على شيء، بعث عليه.
وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفَتْ *** عَلَيْهَا السَّوَافِي فِي جَمِيعِ الأَقَالِمِ
جاء في صحيح الإمام البخاري قال الزُّهْرِي دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ : لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ. وقال: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ : سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. قال عبد الحيّ اللَّكنوي: وهذا بالنسبة إلى زمان الصحابة والتابعين فكيف لو رأيا زماننا هذا الذي شاعت فيه البدعات وراجت المنكرات أو اتخذت البدعة سنة والسنة بدعة وصار المنكر معروفا والمعروف منكرا فإنا لله وإنا إليه راجعون .أ.هـ وأقول كيف لو أبصروا زماننا اليوم..؟ لتبولوا دماً. فاللهم عافنا فيمن عافيت.
قال ابن القيم في التبوكية : وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب بين العباد .أ.هـ
وَمَا الدِّينُ إلاَّ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا *** كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ
قال ابن تيمية في الفتاوى : والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية ولا بد لكل حي من حب وبغض فإذا كانت محبته لمن يحبه الله وبغضه لمن يبغضه الله دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس فإذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله. دل على كمال الإيمان باطنا وظاهرا. وأصل الشرك في المشركين – الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا – إنما هو اتخاذ أنداد يحبونهم كحب الله كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} ومن كان حبه لله وبغضه لله لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله فهذه حال السابقين من أولياء الله كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن {النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن: يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه} . فهؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة تقربوا بما يحبه من النوافل بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض أحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه وصار أحدهم يدرك بالله ويتحرك بالله بحيث أن الله يجيب مسألته. ويعيذه مما استعاذ منه.أ.هـ
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله، في سبيل النجاة والفكاك: إن موافقة المشركين تنقسم إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يوافقهم في الظاهر والباطن، فينقاد لهم بظاهره، ويميل إليهم ويوادهم بباطنه، فهذا النوع كفر يخرج من الإسلام
الحالة الثانية : أن يوافقهم ويميل إليهم بباطنه مع مخالفته لهم في الظاهر، فهذا أيضا كفر، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهرا، عصم ماله ودمه وعومل بحسب ظاهره، وهذا هو المنافق، الذي يظهر الإسلام ويبطن مودة الكفار ومناصرتهم.
الحالة الثالثة: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو على وجهين:
1- أن يفعل ذلك وهو في سلطانهم، وتحت ولايتهم، مع ضربهم له وحبسه، وتهديده بالقتل والتعذيب، مع مباشرة التعذيب فعلا، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان، كما جرى لعمار بن ياسر (رضي الله عنه) حيث أنزل الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
2- أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم وإنما حمله على ذلك، إما طمع في رياسة، أو مال أو مشحة بوطن أو عيال، أو خوف مما يحدث في المال فإنه في هذه الحال يكون مرتدًّا، ولا تنفعه كراهيته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)فأخبر سبحانه وتعالى أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالدين أو بغضه، ولا محبة الباطل وأهله، وإنما هو أنَّ لهم حظًّا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين المنزل من عند الله. أ.هـ. وهذا من أخطرها و أكثرها وقوعا فليتنبه اللبيب.أ.هـ
وَلَيْسَ لَهَا مِنْ سَالِكٍ مُتَمَسِّكٍ ***
من سنن الله أن أهل الحق هم الأقل قال تعالى: ({وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} وقال في عدة آيات :{ولكن أكثر الناس لايعلمون}
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- ( فتح القدير ) عند قوله تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) : ” أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه، لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، ومنهم الطائفة التي تزال على الحق ولا يضرها خلاف من يخالفها، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “اهـ
قال العلامة ابن باز رحمه الله : في الفتاوى : ” وليحذر كل مسلم أن يغتر بالأكثرين ، ويقول : إن الناس قد ساروا إلى كذا ، واعتادوا كذا ، فأنا معهم ، فإن هذه مصيبة عظمى ، قد هلك بها أكثر الماضين ، ولكن أيها العاقل ، عليك بالنظر لنفسك ومحاسبتها والتمسك بالحق وإن تركه الناس ، والحذر مما نهى الله عنه وإن فعله الناس ، فالحق أحق بالاتباع ، كما قال تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه ِ وقال تعالى : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وقال بعض السلف رحمهم الله : ( لا تزهد في الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين ” اهـ .
………………………………*****بِدِينِ النَّبِيِّ الأَبْطَحِيِّ ابْنِ هَاشِمِ
يعني نبينا عليه الصلاة والسلام . قال في سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد” الأبطحي: نسبة إلى الأبطح وهو مسيل الماء، وفيه دقاق الحصى، والمراد هنا أبطح مكة، وهو مسيل واديها، وهو ما بين مكة ومنى ومبتدأه المحصب. وأصله في اللغة: ما انحدر من الجبال وارتفع عن المسيل. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى * * وأكرم جدا أبطحيا يسود
فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الدِّينِ وَامَّحَتْ *** بِهِ الْمِلَّةُ السَّمْحَاءُ إحْدَى الْقَوَاصِمِ
من سنن الله أنه في آخر الزمن تكثر الفتن والصوارف, ففي صحيح الامام مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ ، قَالَ: « دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ…)
فَنَأْسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي*** إلَى اللهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ
التوبة النصوح واجبة على كل أحد وهي الرجوع إلى الله تعالى وترك ما يكرهه الله ظاهراً وباطناً ندماً على ما مضى ، وإقلاعا، وعزماً على ألا يعود والاستقامة على الدين بفعل ما يحبّه الله تعالى . قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
والاسف على الذنوب والندم عليها والخوف من آثارها منهج السلف رحمهم الله .
قال في جامع العلوم والحكم : كان السَّلفُ الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة؛ حذراً من لوم النفس عندَ انقطاع الأعمال على التقصير. وفي ” الترمذي ” عن أبي هريرة مرفوعاً
: ((ما مِنْ مَيِّتٍ يموتُ إلَاّ ندم، إنْ كان محسناً ندم على أنْ لا يكونَ ازداد، وإنْ كان مسيئاً ندم أنْ لا يكون استعتب)) .
وقيل لمسروق: لو قصرتَ عن بعض ما تصنع من الاجتهاد، فقال: والله لو أتاني آتٍ، فأخبرني أنْ لا يعذبني، لاجتهدت في العبادة، قيل: كيف ذاك؟ قال: حتى تَعْذِرني نفسي إنْ دخلت النار أنْ لا ألومها، أما بلغك في قول الله تعالى: … {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} إنَّما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنَّمَ، فاعتنقتهم الزَّبانيةُ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورفعت عنهم الرحمة، وأقبل كلُّ امرئٍ منهم يلومُ نفسَه.
وكان عامر بن عبد قيس يقول: والله لأجتهدنَّ، ثم والله لأجتهدنَّ، فإنْ نجوت فبرحمة الله، وإلَاّ لم ألم نفسي .
وكان زياد مولى ابن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوانَ بن سُليم: الجدَّ الجدَّ والحذَرَ الحذَرَ، فإنْ يكن الأمرُ على ما نرجو، كان ما عمِلتُما فضلاً، وإلَاّ لم تلوما أنفسكما.
وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول: اجتهدوا في العمل، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات في الجنَّة، وإنْ يكن الأمرُ شديداً كما نخاف ونُحاذِرُ، لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا … نَعْمَلُ} ، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك. أ.هـ
فَنَشْكُو إلَى اللهِ الْقُلُوبَ الَّتِي قَسَتْ ***
من أعظم المصائب قسوة القلب وبعده عن الله. قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد :
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
ماخلقت النار إلا لإذابة القلوب القاسية.
أبعد القلوب من الله القلب القاسي.
إذا قسي القلب قحطت العين.
قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة الأكل والنوم والكلام والمخالطة.
كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ,
ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته .
القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها.
شغلوا قلوبهم بالدنيا ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلي أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد.
إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة .أ.هـ
……………. …… وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)… وقال الحسن البصري :هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت. وكذا قال مجاهد ابن جبر وقتادة، وابن زيد، وغيرهم .أ.هـ وفي صحيح الإمام مسلم قال عليه الصلاة والسلام: « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فأي قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وأي قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»
قال ابن القيّم رحمه اللّه: ممّا ينبغي أن يعلم: أنّ الذّنوب والمعاصي تضرّ، ولا بدّ أنّ ضررها في القلب كضرر السّموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضّرر. وهل في الدّنيا والآخرة شرّ وداء إلّا بسبب الذّنوب والمعاصي؟
أَلَسْنَا إذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخٌ *** بَأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ
* يقال تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به وأكثر منه.
* الأوضار: الأدناس والأوساخ والخبث يقال :فلان ذو أوضار خبيث…والمقصود أنه متلبس بالذنوب والموبقات…
* قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ.
نَهَشُّ إلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالثَّنَا *** وَنُهْرَعُ فِي إكْرَامِهِمْ بِالْوَلائِمِ
من المصائب مداهنة الكفار والعصاة. وهي : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصانعتهم من أجل الدنيا والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين كالاستئناس بأهل المعاصي والكفار ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه. أما المداراة وهي: درء المفسدة والشر بالقول اللين وترك الغلظة أو الإعراض عن صاحب الشر إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس له فليس من المداهنة.
وقد جاء في الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام :(أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ قَالَ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)ومع ذلك فقد قال تعالى:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
قال ابن سعدي: أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا )
وقوله: ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به، ( وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا ) أي: عاونوا غيرهم ) عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ) نهاكم الله ( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم، الذي ليس بتول للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم.( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما، صار ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ، وما هو دون ذلك.
وَقَدْ بِرِئ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ ****** يُقِيمُ بِدَارِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُصَارِمِ
من طوام هذا الزمان المدلهمة التعايش مع الكفار ومساكنتهم والسفر إلى بلادهم. واتخاذهم بطانه.. والنصوص في تحريم هذا ظاهرة بحمد الله . قال تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩)﴾ وقال تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)﴾ وقال سبحانه : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ والايات في هذا الباب كثيرة جدا .
وقد برئ النبي عليه الصلاة والسلام ممن يعيش بينهم وقد أمر الله بالهجرة من ديارهم لمن قدر عليها فكيف يجوز السفر إليهم والمقام بين أظهرهم سبحانك هذا بهتان عظيم.وقد كتبت رسالة بعنوان(السفر إلى بلاد الكفر والفساد)
وَلا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدا ***
من جاز له السفر إلى بلاد الكفار أو الفساد لحاجة أو ضرورة فالواجب عليه إظهار دينه. قال الشيخ محمد بن إبراهيم: إظهاره دينه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد، والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال.أ.هـ وقال أبناء شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب كما في ” الدرر السنية “:وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم، واعتزالهم، وليس فعل الصلوات فقط إظهارا للدين، وقول القائل إنا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لا بد مما ذكر .أ.هـ
………………………… فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ
قال في الآداب الشرعية: يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ.
وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُّ عِنْدَنَا *** مُسَالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنْ كُلِّ آثِمِ
أَي أهل العقل المعيشي النفاقي . قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله : العقل الآخر : عقل معيشي نفاقي مخذول قد قهرته النفس الأمارة بالسوء وأسرته الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية وصار الحاكم عليه الهوى فمحبته لهواه وبغضه لهواه وموالاته لهواه ومعاداته لهواه وبذله لهواه ومنعه لهواه . فهذا العقل يقتضي من أربابه أن يتملقوا لسائر أصناف الناس بألسنتهم ويحسنوا السلوك مع الصالح والطالح ، وهذا العقل هو الغالب على أكثر الناس في زماننا عامتهم وخاصتهم وما أكثره في المنتسبين إلى العلم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقال رحمه الله :أهل العقل المعيشي لا يرون بمداهنة البدع والفسوق والعصيان بأسا ، وكثير منهم لا يرون بمداهنة الكفار والمنافقين بأسا . وبعض أهل الجهل المركب منهم ينكرون على من يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان. قال ابن القيم رحمه الله: لا عقلا معيشيا نفاقيا يظن أربابه أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون فإنهم يرون العقل أن يرضوا الناس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مودتهم ومحبتهم وهذا مع انه لا سبيل إليه فهو إيثار للراحة والدعة ومؤنة الأذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه وهو وان كان اسلم عاجلة فهو الهلك في الآجلة فإنه ما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله والله الموفق المعين.
فَيَا مِحْنَةَ الإسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ ***
قال ابن القيم في النونية :
يا محنة الإسلام والقرآن من** جهل الصديق وبغي ذي طغيان
والله لولا الله ناصر دينه ** وكتابه بالحق والبرهان
لتخطفت أعداؤنا أرواحنا ** ولقطعت منا عرى الإيمان
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: الجهل مرض يؤلم القلب فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مرضه لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبرئه. وقال في النونية:
وتعر من ثوبين من يلبسهما … يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه … ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة … زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع… نصح الرسول فحبذا الأمران
وتمسكن بحبله وبوحيه … وتوكلن حقيقة التكلان
…………………………..**** وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ
من مظاهر غربة الدين في هذه الازمان قلة الناصر والمعين والمؤيد لأهل الحق حتى من أهل الحق أنفسهم مع مشاهدة تكاتف أهل الباطل ضد الحق.ومع ذلك فليس هذا مسوغا لترك الصدع بالحق… قال ابن القيم رحمه الله :
وأصدع بما قال الرسول ولا تخف من قلة الأنصار والأعوان
فالله ناصر دينه وكتابه والله كاف عبده بأمان
لا تخش من كيد العدو ومكرهم فقتالهم بالكذب والبهتان
يا محنة الإسلام والقرآن من جهل الصديق وبغي ذي طغيان
وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إنْ كُنْتَ حَازِمًا *** عَلَى الدِّينِ فَاصْبِرْ صَبْرَ أَهْلِ الْعَزَائِمِ
الواجب على المؤمن الصبر عند كثرة الفساد وظهوره وقلة الأعوان والحذر من التصرفات التي تخالف مراد الله. ولا يعني ذلك ترك العمل والإصلاح فإن هذا من الفروض بل يجب أن تضاعف الجهود وقت غربة الدين . وقلة الأنصار وشدة كيد الأعداء وتفاقم جهل الأبناء.
قال في الفروع:قَالَ شَيْخُنَا(يعني ابن تيمية) :عَامَّةُ الْفِتَنِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا قِلَّةُ الصَّبْرِ ، إذْ الْفِتْنَةُ لَهَا سَبَبَانِ: إمَّا ضَعْفُ الْعِلْمِ ، وَإِمَّا ضَعْفُ الصَّبْرِ ، فَإِنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ أَصْلُ الشَّرِّ ، وَفَاعِلُ الشَّرِّ إنَّمَا يَفْعَلُهُ لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ شَرٌّ ، وَلِكَوْنِ نَفْسِهِ تُرِيدُهُ ، فَبِالْعِلْمِ يَزُولُ الْجَهْلُ ، وَبِالصَّبْرِ يُحْبَسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ ، فَتَزُولُ تِلْكَ الْفِتْنَةُ . أ.هـ
فَمَنْ يَتَمَسَّكْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي *** أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ
جاء في الدرر السنية نصيحة من نصيحة للشيخ عبدالله أبا بطين : وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد، الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله.
فأكثر الناس اليوم، صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً؛ وهذا زمان، الصابر فيه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله. وتصدر للفتوى جهال أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور، وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا. والمنصف اليوم، أعز من الكبريت الأحمر، والحق – ولله الحمد – عليه نور، قال صلى الله عليه وسلم: ” تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها ” 1. والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب منه قلبه.
ونرجو أن المتمسك بدينه اليوم، يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله، لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات؛ فلم يبق، والله، من الإسلام إلا اسمه؛ وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق.
وقال أيضاً: والحديث المروي: ” يأتي على الناس زمان، يذوب فيه قلب المؤمن ” الحديث; فهذه الأزمنة، والله، كذلك، ولكن لضعف الإيمان، ما نحس بذلك على حقيقته. وقد اشتدت، والله، غربة الإسلام، وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل، الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم، وإنكارهم له .أ.هـ
قال في أضواء البيان : ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام , باطل لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية؛ قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية. وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا .. } الآية. فقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يدل على الاستعداد لمكافحة العدو، وقوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف، وداود من أنبياء “سورة الأنعام” المذكورين فيها في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} الآية، وقد قال تعالى مخاطبًا لنبينا – صلى الله عليه وسلم – وعليهم بعد أن ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.
وقد ثبت في صحيح البخاري، عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة “في ص”، فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود، فسجدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به. أ.هـ
قال في الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام : فمعلوم لَا يجهل ومشهود لَا يُنكر جده الْأَعْلَى إِبْرَاهِيم وَالْأَقْرَب عبد الْمطلب كَابِرًا عَن كَابر وشريفا عَن شرِيف فهم بَين أنبيائه فضلاء وَبَين شرفاء حكماء وَهَذَا كُله مُسلم لَا يمْنَع ومقبول لَا يدْفع فَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خير قُرُون بني آدم قرنا فقرنا وَذَلِكَ أَن الله اصْطفى من ولد آدم إِبْرَاهِيم وَاصْطفى من ولد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل كَمَا قد شهِدت التَّوْرَاة وَغَيرهَا بذلك وَاصْطفى من ولد إِسْمَاعِيل بني كنَانَة وَاصْطفى من بني كنَانَة قُريْشًا وَاصْطفى من قُرَيْش بني هَاشم واصطفاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بني هَاشم فَهُوَ خِيَار من خِيَار من خِيَار وَكَذَلِكَ الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِم وَسلم تبْعَث فِي أشرف أَنْسَاب قَومهَا صلى الله عَلَيْهِم ذَلِك ليَكُون أميل لقلوب الْخلق إِلَيْهِم وَالله أعلم. أ.هـ
لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ امْرَأً مِنْ ذَوِي الْهُدَى*** مِنَ الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِىُّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِى حَكِيمٍ قَالَ حدثني عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِىُّ حدثني أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِىُّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ « بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ – يَعْنِى بِنَفْسِكَ – وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ».وزادني غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)
قال ابن تيمية في الفتاوى : وأما قوله: (لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا) فهذا صحيح إذا عمل الواحد من المتأخرين مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين؛ لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين؛ كأبي بكر وعمر فإنه ما بقي يبعث نبي مثل محمد يعمل معه مثلما عملوا مع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال رحمه الله :فلما طال الزمان خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرا لهم ودق على كثير من الناس ما كان جليا لهم فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف. وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر الله لهم خطاياهم ويثيبهم على اجتهادهم. وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلا يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك؛ لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه. وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .أ.هـ
فَنُحْ وَابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا *** إلَيْهِ فَإنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ
من أعظم أسباب النصر والتمكين اللجأ إلى الله تعالى والاستغاثة به قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) وقال سبحانه: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). وقال تعالى ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ .
قال ابن تيمية في الاصفهانية : وقد شهدنا أن العسكر إذا انكسر خشع لله وذل وتاب إلى الله من الذنوب وطلب النصر من الله وبرئ من حوله وقوته متوكلا على الله ولهذا ذكرهم الله بحالهم يوم بدر وبحالهم يوم حنين فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) وقال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) .
وشواهد هذا الأصل كثيرة وهو أمر يجده الناس بقلوبهم ويحسونه ويعرفونه من أنفسهم ومن غيرهم وهو من المعارف الضرورية الحاصلة بالتجربة لمن جربها، والأخبار المتواترة لمن سمعها. أ.هـ
لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا عَفَتْ ***
من أسباب دفع الغربة عن الأمة:
1- طلب العلم النافع ونشره بين الناس.
2- التربية الإسلامية الجادة المستفادة من الوحيين.
3- الصبر والثبات عند البلايا والمحن التي تصيب الأمة.
4- القيام لله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه شريعة الله.
5- رفع راية الجهاد في سبيل الله والحذر من الرايات العُمِّيَّةٍ التي تزيد غربة الدين.
6- إظهار عزة المسلمين وحميتهم الدينية . قال تعالى:( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)
7 – بغض الكافرين واغاضتهم ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
………………………. مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
مع هذه الحال التي وصف الناظم ومع الواقع المرير يجب أن نحسن الظن بنصر لله لنا فنحن موعودون بالنصر والتمكين, لكن بمقدار ما معنا من الإيمان والعمل الصالح يكون النصر وبمقدار ما عندنا من التقصير يتخلف النصر قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).قال ابن القيم رحمه الله:
والحق منصور وممتحن فلا … تعجب فهذي سنة الرحمن
وبذاك يظهر حزبه من حربه … ولأجل ذاك الناس طائفتان
ولأجل ذاك الحرب بين الرسل والـ … كفار مذ قام الورى سجلان
لكنما العقبى لأهل الحق إن… فاتت هنا كانت لدى الديان.
وقال :
والله ناصر دينه وكتابه … ورسوله في سائر الأزمان
لكن بمحنة حزبه من حربه … ذا حكمة مذ كانت الفئتان
وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ وَالآلِ كُلِّهِمْ ***
* قال شيخنا ابن عثيمين: صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم معناها، اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، واذكره بالجميل. وليست صلاة الله على عبده بمعنى رحمته، وإن كان بعض العلماء قال: إن الصلاة من الله الرحمة. لكنه قول مرجوح بالآية التي قال الله فيها: ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) والعطف يقتضي التغاير.أ.هـ قال البخاري في صحيحه: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ صَلَاةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ .أ.هـ
* المراد بالآل : إن قرنت بالأتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته. وإن لم تقرن بالأتباع فالمراد بآله: أتباعه على دينه، ويشمل المؤمنين من قرابته. وعبارة الناظم ليس فيها ذكر الأتباع. فيكون المراد بـ ( آله ) أتباعه على دينه من القرابة وغيرهم.
……………………………….وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْمَكَارِمِ
الصحابة. جمع صحابي والصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ويشمل أي اجتماع سواءٌ كان طويلاً أو قصيراً. ولو تخلل ذلك ردة.
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
قال تعالى : ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ .وقال تعالى : ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قال في الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كما وصفهم الله به في قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وطاعة النبي في قوله: ” {لا تسبوا أصحابي. فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} . ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع: من فضائلهم ومراتبهم… ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: {أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي} وقال أيضا للعباس عمه – وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم – فقال: {والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي} وقال: {إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم} .
ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة …
ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم. ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه: هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛…قد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إنهم خير القرون ” ” وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ” … ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى .أ.هـ
بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَى *** وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلالِ الْغَمَائِمِ
يعني أصلى عليهم صلاة بعدد ومض البرق وعدد الرمل والحصى…قال في تحفة الأحوذي عند قوله صلى الله عليه وسلم سبحان الله وبحمده عدد خلقه):وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَأَنَّ قَائِلَهَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ تَكْرَارِ الْقَوْلِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَلَا يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قَالَ هَكَذَا أَخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ لَفْظَ الذِّكْرِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَرْشَدَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ تَخْفِيفًا لَهُمْ وَتَكْثِيرًا لِأُجُورِهِمْ مِنْ دُونِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
قال الواحدي في التفسير البسيط :قوله (فَتَرَى الْوَدْقَ) يعني: القطر والمطر، في قول المفسرين .
قال الليث: الودقُ: المطر كلُّه شديده وهيّنه. يقال: سحابةٌ وادقة ، وقيل ما يقولون: ودقت تدقُ . وأنشد أبو عبيدة :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقال المبرد: الودقُ: المطر. سمي ودقًا لخروجه من السحاب يقال: ودقت سرته إذا خرجت .أ.هـ
هَذَا مَا لَزِمَ ،وَلَدَيْنَا الشَّيْخُ المُكَرَّمُ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللَّطِيفِ وَأَوْلادُهُ، وَحَاضِرُ الخَطِّ وَبَلِّغِ السَّلامَ الشَّيْخَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَخَوَاصَّ الإخْوَانِ مِنَّا عُمُومًا وَمِنْكَ خُصُوصًا عُمَرُ بْنُ يُوسُفَ،الكُلُّ يُبَلِّغُونَكَ السَّلامَ وَأَنْتَ سَالِمٌ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ .
ختم رحمه الله بالسلام كما بدأ وقد جاء السلام في ختام الرسالة معرفا كما أنه في أولها منكرا لثلاث فوائد منتخبة ومختصرة من كلام الإمام ابن القيم في بدائعه:
1- أن السلام الأول قد وقع الأنس بينهما به فكان الأحسن أن يسلم عليه سلاما أعم من الأول لئلا يبقى تكرارا محضا فأتى بلفظ يجمع سلامه وسلام غيره فيكون قد جمع له بين السلامين الخاص منه والعام منه ومن غيره.
2- أن السلام المعرف اسم من أسماء الله وقد افتتح الكاتب والناظم رسالته بذكر الله فناسب أن يختمها باسم من أسمائه وهو السلام ليكون اسمه تعالى في أول الكتاب وآخره.
3- أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب والناظم: والسلام عليكم ورحمة الله هي عطف على السلام المبدوء به فكأنه قال والسلام المتقدم عليكم…
هذا ما يسر الله ومنّ به من تعليقات على هذا النظم راجيا من الله البركة والقبول. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
كتبه / عبد الرحمن بن صالح بن عثمان المزيني
المشرف العام على موقع رياض الإسلام
غرة رمضان 1435هـ
تمت المراجعة ليلة الجمعة 17 ربيع الأول 1446هـ في بيتي في العزيزية
بمكة زادها الله شرفا والحمد لله رب العالمين.