رويدا أيها القُصاص !! بسم الله الرحمن الرحيم لقد ابتليت أمة الإسلام عبر عصورها بالمبدلين والمغيرين في دين الله. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوجود هذا التغيير ففي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم (إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال هل شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم) فكان ابن أبي مليكة يقول اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا ، أو نفتن عن ديننا.أ.هـ وهولاء على نوعين:إما مريد للخير والإصلاح لكنه جاهل فيفسد بهذا أكثر مما يصلح ويصدق عليه قول صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود كما عند الدارمي(..قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال وكم من مريد للخير لن يصيبه..) ولما كان القصص الحق نافعا ومؤثرا اعتنى به القرآن الكريم والسنة المطهرة, لكن اشتد نكير السلف على القصاص بسبب ما نهجه كثير من القصاص والوعاظ من الكذب والافتراء . فقد أخرج السيوطي في تحذير الخواص من أكاذيب القصاص عن محمد بن موسى الجرجاني قال سمعت محمد بن كثير الصنعاني يقول الجلوس إلى القصاص فيه ثلاث خصال الرضا واستخفاف العقل وذهاب المروءة فقلت له قد شددت فقال والله لو أني ملكت شيئا من أمور المسلمين لنكلت بهم قلت بأي حجة قال هم أكذب الخلق على الله وعلى أنبيائه ومن يجلس إليهم شر منهم. قلت أليس كان ابن مسعود يذكر؟ قال إنما أراد بذلك ابن مسعود التواضع ومنفعة المسلمين ولم يكذب على الله تعالى ولا على رسوله..) وأخرج الطبراني في الكبير عن عمرو بن زرارة، قال: وقف علي عبد الله وأنا أقص في المسجد، فقال:يا عمرو لقد ابتدعتم بدعة ضلالة، أو أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولقد رأيتهم تفرقوا عني حتى رأيت مكاني ما فيه أحد).وفي البدع لابن وضاح عن همام بن الحارث التيمي قال: لما قص إبراهيم التيمي أخرجه أبوه من داره وقال: ما هذا الذي أحدثت?) فهذا هو الواجب على العلماء من الاحتساب على هولاء ومنعهم من التغيير في دين الله . وكان الأئمة يمتنعون من تحديث القصاص لأن الكثير منهم يحرف الكلم ويزيد وينقص, ففي الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي عن أبي الوليد الطيالسي قال : كنت مع شعبة فدنا منه شاب فسأله عن حديث فقال له شعبة : أقاص أنت ؟ قال: وكان شعبة سيئ الفراسة فلا أدري كيف أصاب يومئذ قال : فقال الشاب : نعم قال : اذهب فإنا لا نحدث القصاص قال : فقلت له : لم يا أبا بسطام ؟ قال : يأخذون الحديث منا شبرا فيجعلونه ذراعا.أ.هـ وإن من مفاسد هذه القصص المكذوبة التي ينسجها الوعاظ والمذكرون : 1 – الكذب والافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.فقد سبق قريبا قول الصنعاني : (هم أكذب الخلق على الله وعلى أنبيائه) وجاء في كتاب القصاص والمذكرين لابن الجوزي عن محمد بن طاهر المقدسي قال : (كان أحمد الغزالي آية من آيات الله في الكذب يتوصل إلى الدنيا بالوعظ . سمعته يوما بهمذان يقول : رأيت إبليس في وسط هذا الرباط سجد لي . فقلت : ويحك ! إن الله – تعالى – أمره بالسجود لآدم فأبى . فقال : والله ! لقد سجد لي أكثر من سبعين مرة. فعلمت أنه لا يرجع إلى دين ومعتقد. وكان يزعم أنه يرى رسول الله في يقظته لا في نومه. وكان يذكر في وعظه أنه كلما أشكل عليه أمر رأى رسول الله فسأله عن ذلك المشكل. قال : وسمعته يوما يحكي حكاية عن بعض المشايخ . فلما نزل سألته عنها، فقال: أنا وضعتها في الوقت. وله من هذه الجهالات والحماقات ما لا يحصى . 2 – أن عمل هولاء القصاص فيه استدراك على الشارع الحكيم فهم يسدون بزعمهم نقص الشريعة وإلا لو أيقنوا كمالها لما كذبوا وتزيدوا .قال تعالى:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) 3 – فيه صد للناس عن الوحيين – الكتاب والسنة – فالنفوس تحب القصص وتميل إليها فيعرض الناس عن الحق. ففي المستدرك عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال :حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة مولى لبني فروخ فأرسل إليه معاوية فقال:أمرت بهذه القصص ؟ قال : لا قال : فما حملك على أن تقص بغير إذن ؟ قال : ننشر علما علمناه الله عز و جل فقال معاوية:لو كنت تقدمت إليك لقطعت منك طائفة ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال : قال النبي صلى الله عليه و سلم :إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين و سبعين ملة و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين كلها في النار إلا واحدة و هي الجماعة و يخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق و لا مفصل إلا دخله و الله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به) وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : (أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به). فحث على كتاب الله ورغب فيه .رواه مسلم 4 – إشاعة الفاحشة في الناس بنشر قصص الفساد والانحراف وتهوينها في قلوب الناس فإن ذكر قصص الفواحش ولو كانت صحيحة مما يشيع الفاحشة فكيف إذاً وهي كذب وافتراء.قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور19) 5 – أن هذه القصص الملفقة تنفر الناس عن ديننا لأن من يسمعها يظنها من ديننا فيظن ديننا مبنيا على هذه الترهات. حتى صارت هذه القصص مجالا للتندر والاستهزاء في المجالس على الدعاة والصالحين. 6 – صد الناس عن مجالس العلماء واتجاههم لهولاء الذين هم في الغالب يهدمون ولا يبنون. فقد جاء في حلية الأولياء عن أبي قلابة قال : ما أمات العلم إلا القصاص . يجالس الرجل القاص سنة فلا يتعلق منه بشيء، ويجالس العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء) 7 – نشر البدع والخرافات التي يتمسك بها العوام رغبة بما يترتب عليها من فضل قد نسجه القصاص والوعاظ فمن ذلك ما ذكره ابن القيم في المنار المنيف(من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرا له سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له ومن فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة في كل مدينة سبعون ألف قصر في كل قصر سبعون ألف حوراء) وجاء في البدع لابن وضاح عن معاوية بن قرة قال: كنا إذا رأينا الرجل يقص قلنا هذا صاحب بدعة) 8 – ميلهم إلى التشدد في الدين وتقنيط الناس من رحمة الله وعفوه ففي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي الكنود ، قال : مر عبد الله على قاص وهو يذكر النار ، فقال : يا مذكر ، لا تقنط الناس : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).وفي صحيح مسلم عن جندب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدث (أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك). أو كما قال. 9 – تعجيز المقبلين على الهداية إذا سمعوا بعض القصص التي لم تكن للسلف الصالح وهي مكذوبة فيتراجع المقبل لعلمه أنه لن يدرك هذه المنازل وهذه النماذج وهي أشبه ما يكون بالمحال.!! 10 – من المفاسد إعجاب القاص بنفسه إذا رأى كثرة الناس حوله فيفسد بهذا دنياه وآخرته, ففي المسند عن الحرث بن معاوية الكندي: أنه ركب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ثلاث خلال…قال وعن القصص فإنهم أرادوني على القصص فقال ما شئت كأنه كره أن يمنعه قال إنما أردت أن أنتهي إلى قولك قال أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك .تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن رجاله ثقات. 11 – حرصهم تأكيد قصصهم بتصنع البكاء, وهذا مسلك خطير في المقاصد والنيات قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة:(قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). وربما قال قائل أن لهذه القصص – ولو كانت مكذوبة – أثر على الناس فكم اهتدى بسببها من الخلق ؟ والجواب عن هذه الشبهة أقول: إن الله تعالى أغير على دينه منا وقد أنزل كتابه العظيم هدى للناس وغناء للدعاة والوعاظ.قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ولو علم الله في مسلك القصاص خيرا لأذن فيه .ومن لم يستغن بآيات الله فلا أغناه الله. ثم ليعلم المسلم أن ما بني على باطل فمصيره إلى الاضمحلال ولو أعجبك ظاهره..قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله. كتبه /د.عبد الرحمن بن صالح بن عثمان المزيني |